المراهقة و البلوغ
الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً r عبده ورسوله، أما بعد:
فحديثنا بعنوان:- المراهقون الوجه الآخر، وهو ليس حديثا حول علم النفس، فالحديث حول هذه الموضوعات إنما يتحدث به المختصون، ويوجه إلى أصحاب الاهتمام لكن ثمة قضايا تعنينا باعتبارنا مسلمين، ولها أبعاد شرعية ومن ثم فلا يسوغ أن تكون حكرا على أهل الاختصاص وحدهم، أو أن يكون ما يقولونه فيها مسلَّماً.
الحديث عن المراهقة والمراهقين يكثر في هذا الوقت عند علماء النفس، وعند دعاة الإصلاح وعند رجال التربية والتعليم، وفي العصر الحاضر أصبح حديث الكثير من الناس، سواء أكانوا شبابا يعيشون هذه المرحلة فيتحدثون عن همومها وآلامها ومشكلاتها، أم كانوا ولاة أمور يتحدثون عن ما يعانونه من أبنائهم وبناتهم، أو كانوا أهل تربية وتعليم يبثون شكواهم حول ما يلقونه من الجيل، الذين عامتهم هم من أهل هذه المرحلة.
سيطر على كثير من الناس - وتدعم هذا دراسات كثيرة في علم النفس المعاصر- أن مرحلة المراهقة أزمة ومشكلة، وحين يطلق لفظ المراهق فهو يعني عند الكثير الطيش والانحراف والشطط، وأدى الغلو في هذا المفهوم إلى نتائج خاطئة؛ فصار الأب يعتذر عن انحراف ابنه وعن صبوته بأنه مراهق، وحينما نتحدث مع أحد أولياء الأمور، أو مع أحد المعلمين، أو مع أحد ممن يتحمل مسؤولية في بلاد المسلمين – حول شاب من الشباب، أو حول جمع من الشباب مبديا شكواك لما تراه عليه يجيبك بأنه مراهق، وهذا يعنى أن مرحلة المراهقة هي عذر لارتكاب الجريمة، وهي عذر للانحراف، وعذر للصبوة والشطط والغفلة، أو بعبارة أخرى إن هذه المرحلة تعني التلازم مع هذه الحالة، وحين يطلب منه أن يرتقي بابنه أو بمن يتولى تربيته إلى مستوى أعلى مما هو عليه يعتذر لك بأنه لايزال شابا مراهقا فما مدى صحة هذه النظرة؟ وهل ثمة وجه آخر للمراهقين غير هذا الذي نراه؟
بين يدي مناقشة هذه القضية نعرج سريعا على التعريف بالمراهقة، وهو مصطلح ورد في لغة العرب يقولون: رهق: أي غشي أو لحق أو دنا منه سواء أخذه أو لم يأخذه، والرهق محركا: السفه والخفة وركوب الظلم والشر وغشيان المحارم، وراهق الغلام: قارب الحلم. ودخل مكة مراهقا: أي آخر الوقت حتى كاد يفوته التعريف (يعني الوقوف بعرفة).
وقد ورد هذا اللفظ في كتاب الله عز وجل في قول سبحانه وتعالى: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) أي: لا يغشى وجوههم قتر ولا ذلة. وأيضا في قوله عن الجن
وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا).
والمراهقة تعني: هذه المرحلة التي هي قرب البلوغ، أما في علم النفس المعاصر فهي: المرحلة التي تلي البلوغ وهي غالباً من الثانية عشرة إلى التاسعة عشرة أو الحادية والعشرين. فعلماء النفس يصنفون من كان في هذا السن مراهقا تحكمه خصائص معينه وطبيعة معينة.
مالفرق بين المراهقة والبلوغ؟
هناك من يعتبر أنهما مترادفان؛ فالبلوغ يعني المراهقة، و هناك من يعتبر أن البلوغ هو العلامة المتميزة كبداية مرحلة المراهقة، ومنهم من يعتبر أن المراهقة أعم فالبلوغ يختص بالنمو الجنسي أو النمو العضوي والجنسي، والمراهقة تشمل ما سوى ذلك.
ولا يهمنا كثيرا الوقوف حول المعاني اللغوية، لكن هذه إشارة سريعة للتعريف بالمقصود حول هذا المصطلح.
ونتيجة عوامل عدة تولدت نظرة شائعة عن المراهقة وأنها تعني الصبوة والانحراف والطيش، وثمة عوامل عدة تدعونا إلى إعادة النظر في قبول هذه النظرة للمراهق:
الأول: نشأة علم النفس:
فهو قد نشأ نشأة غربية ووجد كغيره من سائر العلوم الإنسانية المعاصرة، والمسلمون لا يحسنون إلا الترجمة والنقل الحرفي، دون تمييز وتمحيص مايتعارض مع الشرع من هذه العلوم.
وأكثر جامعات بلاد المسلمين فيها فروع مستقلة لعلم النفس وسائر العلوم الإنسانية، فكيف تدرس هذه العلوم؟
إن أعضاء هيئة التدريس فيها هم ممن تخرج في الجامعات الغربية، أو درس على يد خريجيها، وقليل منهم من يملك العلم والحصانة الشرعية التي تعينه على نقد وتمحيص مايتعارض مع الشريعة الإسلامية، بل طوائف كثر من هؤلاء لايؤمنون بمبدأ التأصيل الإسلامي والمراجعة الشرعية لهذه العلوم، ومن ثم فخريجو هذه الجامعات سيتلقون ويتعلمون هذه العلوم بالنَّفَس والروح الغربية.
وحين تقلب الطرف بمكتبة من المكتبات العربية فستجد قسما خاصًّا للكتب المؤلفة في علم النفس وسائر العلوم الإنسانية باللغة العربية، وهذه الكتب لا تعدو أن تكون نقلا حرفيًّا لما قرره علماء الغرب، ولا تعدو أن تكون ترجمة ركيكة –في الأغلب- لعلم النفس الغربي.
قد يكون من المقبول أن تترجم علوم مادية بحتة كالطب والفيزياء والكيمياء والهندسة ونحوها، لكن العلوم الإنسانية لا يليق أن ننقلها من تلك المجتمعات نقلا حرفيا.
ومما يزيد المشكلة تأخر كثير من الخيرين المتخصصين في هذه التخصصات عن عرض نتاج علمي يتناول هذه العلوم بما يتفق مع الشريعة الإسلامية.
الثاني: العلوم الإنسانية تتأثر بشخصية الباحث:
إن الذي يبحث في أي فرع من فروع العلوم الإنسانية لا يمكن أن يتخلص من شخصيته ونظرته للإنسان، ومن نظرته للدين، ومن نظرته للأخلاق والسلوك…إلخ، لكل هذه الاعتبارات كان هذا العلم الذي نشأ في الغرب لا يعدو أن يكون انعكاسا لنظرتهم تجاه الدين والأخلاق.
ومن أوائل علماء النفس الغربيين الذين عنوا بالمراهقة عالم غربي اسمه ستانلي هول. ألف كتابه عام 1917م يقول فيه عن مرحلة المراهقة:" المراهقة فترة عواصف وتوتر وشدة تكتنفها الأزمات النفسية، وتسودها المعاناة والإحباط والصراع والقلق والمشكلات وصعوبات التوافق".
ويرى آخر وهو: جراندر الذي كتب كتابه عام 1969 م أن المراهقة مجموعة من التناقضات، ويشبه البعض حياة المراهق بحلم طويل في ليل مظلم تتخلله أضواء ساطعة تخطف البصر أكثر مما تضيء الطريق فيشعر المراهق بالضياع ثم يجد نفسه عند النضج، ويصفها البعض بأنها مرحلة جنون.
ويعتبر ستانلي هول الذي أشرنا إليه قبل قليل أن جميع المراهقين مرضى ويحتاجون إلى المعالجة الطبية والنفسية.
إن هذه الأقوال وغيرها لا يمكن أن تفصلها عن شخصية أولئك الذين قالوها فهم ممن نشأ في تلك المجتمعات وعاش فيها وتشرب قيمها.
الثالث: الدراسات الإنسانية تمثل المجتمعات التي أجريت فيها:
إن الدراسات الإنسانية هي في الأغلب نتاج دراسات وبحوث أجريت على الإنسان الغربي، ولا يسوغ أن يعمم نموذج الرجل الغربي على سائر المجتمعات فضلاً عن المجتمعات المسلمة.
هل يسوغ أن نقيس المراهق الذي عاش في بلد مسلم يتسم بقدر كبير من المحافظة على المراهق الذي عاش في مجتمع غربي منحل؟
وهاهو أحد الزعماء الأمريكان ألا وهو جون كنيدي يطلق تصريحه المشهور (عام 1962م) الذي يقول فيه:"إن مستقبل أمريكا في خطر لأن شبابها منحل غارق في الشهوات، لا يقدِّر المسؤولية الملقاة على عاتقه، وإنه من بين كل سبعة شبان يتقدمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين لأن الشهوات التي أغرقوا فيها أفسدت لياقتهم الطبية والنفسية "فمن بين كل سبعة من الشباب لا يوجد إلا واحد فقط صالح للجندية ثم هذا الواحد الصالح لا يعني أنه عفيف طاهر نزيه، بل إن مستوى ما يعبه من الشهوات ومستوى إقباله عليها لا يصل إلى ذلك الحد الذي يمنعه من الدخول إلى الجندية، ولعلكم تعرفون أن الشواذ جنسيا لا يزالون يطالبون بإعطائهم الحق في الالتحاق في القوات المسلحة الأمريكية.
وفي نفس العام أصدر الرئيس السوفيتي خروتشوف تصريحا شبيها بهذا فيقول:"إن مستقبل روسيا في خطر وإن شباب روسيا لا يؤمن على مستقبله لأنه منحل غارق في الشهوات، وأهم أسباب ذلك: الفوضى الجنسية، والخيانة الزوجية".
وإذا كانت هذه التصريحات قبل خمسة وثلاثين عاماً فكيف أصبح الأمر اليوم؟
المقصود من هذا أن هذا الجيل من الشباب الذي يصفه قادته هذا الوصف هو الذي تجرى عليه الدراسات وتستورد بعد ذلك إلى مجتمعاتنا، فهم حين يتحدثون عن طبيعة المراهق أو عن مشكلاته وشخصيته يتحدثون عن أولئك المراهقين والمراهقات.
الرابع: المراهقة ومرحلة البلوغ الشرعي:
من أهم العوامل التي تدعونا إلى إعادة النظر في ما يطرح الآن في علم النفس المعاصر حول المراهقة: أن هذه المرحلة ترتبط بسن التكليف الشرعي.
فالشاب حين يصل سن البلوغ يصبح مكلفاً تكليفا شرعيا، وتجب عليه الواجبات الشرعية التي تجب على سائر المسلمين، ولو مات وهو في هذه السن فإنه سيحاسب في قبره ويسأل، وسيحاسب في موقف الحشر والجزاء عند الله سبحانه وتعالى.
وحينها نتساءل من خلق الإنسان؟ أليس هو الله سبحانه وتعالى؟ أليس سبحانه وتعالى هو العليم بهذا الإنسان وبدواخله وبنوازعه (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) ، فهو سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان، وهو سبحانه وتعالى أعلم بهذا الإنسان بكل مافيه، بخصائصه ونوازعه ودوافعه وشهواته ورغباته وقد كلف سبحانه وتعالى الإنسان في هذه السن بالتكليف الشرعي؛ فصار مؤتمنا على الصلاة والصيام والصدقة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر التكاليف الشرعية.
وحينما كلف الله تبارك وتعالى الإنسان في هذه المرحلة فهذا دليل على قدرته على القيام بواجب هذا التكليف، بل إن اختيار هذا السن فيه حكمة بالغة؛ فهو في هذه المرحلة وهذه السن أقرب ما يكون للعبادة، وأقرب ما يكون للتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، ولأن يتحمل أمانة التكليف.
إن الله سبحانه وتعالى أعلم بخلقه من هؤلاء البشر، فهو الذي خلق الإنسان سبحانه وتعالى وهو أعلم به، فمهما أظهرت الدراسات البشرية المعاصرة مايتعارض مع شرع الله، ومع حكمته تبارك وتعالى في التكليف فهي مرفوضة، ولامكان لها لدى المسلم الموقن بشرع الله عز وجل وحكمته في خلقه.
الخامس: المراهقة والاتجاه نحو التدين:
لقد توصلت دراسات معاصرة عديدة إلى أن المراهق في هذه المرحلة يعيش توجها نحو التدين، وهذا مما يكشف لنا عن شيء من حكمة ارتباط التكليف الشرعي بهذه المرحلة.
يبدأ المراهق في التساؤل عن نفسه من أين أنا؟ وكيف جئت؟ يبدأ يتساءل عن سر خلق الوجود والكون، ويبحث عن الإجابة التي تقنعه حول هذه التساؤلات، وقد يهتدي إلى المنهج السليم، وقد يضل ويزيغ.
ومن الظواهر الملفتة في ذلك ما نراه من بعض الشباب في هذه المرحلة، من إقبال على التدين والعبادة لله عز وجل، حتى من بعض الذين لم ينشأوا في بيئة محافظة. لكن الواقع السيئ للمجتمع كثيراً ما يفسد هذه الفطرة ويجر الشاب بعيداً عن الطريق الشرعي.
السادس: شواهد من التاريخ:
حين نقرأ في تاريخ الأمة –بالمفهوم الواسع فالأمة التي تدين بالإيمان أمة واحدة منذ آدم إلى قيام الساعة- فإننا نرى نماذج من حياة الشباب يبدو فيها الوجه الآخر للمراهقة.
فهاهم أهل الكهف فتية آمنوا بربهم في وسط مجتمع يعج بالشرك والكفر بالله تعالى، ويذكر الله قصتهم في كتابه في آيات يتلوها المسلم كل أسبوع لتكون عبرة للشباب المؤمن إلى قيام الساعة (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى* وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا).
ويحكي لنا النبي r أن قرية آمنت ودخلت في دين الله سبحانه وتعالى على يد شاب يعيش في هذه المرحلة التي يسمونها مرحلة المراهقة، واستطاع أن يصمد وأن يبقى بإذن الله عز وجل وتوفيقه أمام الابتلاء وأمام الإيذاء، وأن يقدم نفسه رخيصة لله سبحانه وتعالى؛ فيؤمن الناس حين رأوا ثباته وموقفه، وتبقى قصة محفوظة في ذاكرة التاريخ ويرددها الجميع، الكبار قبل الصغار.
السابع: وقفات مع شباب الصحابة:
حين نعود إلى سيرة النبي r ونقرأ حياة أصحابه نرى عجبا من الشباب الذين كانوا في هذه السن، كيف كانوا في العلم والجهاد والعبادة وسائر الميادين، ولنستعرض طائفة قليلة من أخبارهم في ذلك:
فمن هؤلاء جابر بن عبدالله رضي الله عنه وهو من رواة الحديث المكثرين، كان عمره عند الهجرة ستة عشر عاما، أراد أن يحضر غزوة بدر وأحد فمنعه والده لأنه كان يريد أن يشهدها هو واستشهد والده في أحد، ثم لم يتخلف جابر –رضي الله عنه- عن غزوة بعدها.
ومنهم أيضا عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه، بايع بيعة الرضوان وعمره سبعة عشر عاماً، وأهل بيعة الرضوان هم أولئك الذين قال الله سبحانه وتعالى عنهم
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا) وقال فيهم النبي r :"لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة".
ومن شباب أصحاب النبي r عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد عرض على النبي r في أحد فلم يجزه ، وعرض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه، وهو ممن بايع تحت الشجرة، وعمره حينها ستة عشر عاماً.
ومنهم سلمة بن الأكوع –رضي الله عنه- ومواقفه مشهودة مشهورة، وهو صاحب غزوة ذي قرد، وهو الذي قال عنه r :"خير رجالاتنا سلمة وخير فرساننا قتادة"، وفي غزوة حنين جاء جاسوس من المشركين إلى أصحاب النبي r فجلس معهم ساعة، ثم ولى فأمرهم النبي r بلحاقه فلحق به سلمة حتى أدركه وقتله.
وكثيراً ما نقرأ في السيرة استعراض النبي r الناس ورده للصغار، مما يعني أن الشاب كان يَنشأ ويُنشَّأ منذ صغره على حب الجهاد ونصرة الدين.
وفي ميدان العلم كان جابر وابن عباس وأنس وابن عمر وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل رضوان الله عليهم من فقهاء ومحدثي أصحاب النبي r.
ولعله أن تتاح فرصة لأن نشبع الحديث حول هذا الموضوع المتعلق بشباب أصحاب النبي r إما مسموعاً أو مقروءاً بإذن الله سبحانه وتعالى (وقد تم بحمد الله بعد هذه المحاضرة بسنوات إخراج كتاب بعنوان شباب الصحابة مواقف وعبر).
الثامن: أين المشكلة في التاريخ الإسلامي؟
لو ألقيت هذا السؤال على من له أدنى صلة بالتراث الإسلامي لأجابك بالنفي مباشرة، فحين نقرأ ما سطره السلف في أي فن من فنون العلم فإننا لا نجد أثرا لهذه المشكلة، نعم قد تجدهم يوصون الشاب بالعبادة والطاعة، لكن هل تجد الحديث المستفيض حول مشكلات الشباب وعن أزماتهم وعن عالم المراهقة الذي نعيشه الآن؟ هل تجد الحديث عن انحراف الشباب وانتكاستهم؟
لقد كان الشباب آنذاك في حلق العلم ومجالسه، فما إن يبلغ أحدهم السابعة أو الثامنة حتى تراه قد أتم حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، أو قطع مرحلة فيه، ثم أصبح يثني ركبه في مجالس العلم مستمعاً ومقيدا لما يسمعه، ولهذا فقد كان الحديث عن سماع الصغير، ورواية الصغير، وحضوره مجالس العلم، كان الحديث عن ذلك يأخذ حيزاً واسعاً من حديثهم عن الشباب .
هكذا كان الشباب في سلف الأمة، وهذا يعني بالضرورة أن هذه المشكلة لم تكن موجودة عند سلفنا، فأنت تجد الحديث عن صبوة الشباب وتصابي الشيوخ، لكنها لم تكن بهذا القدر وهذا الحجم الذي نعيشه اليوم، بل ولا قريباً منه.
وهذا يعني أن واقع الشاب اليوم إنما هو نتاج طبيعي للمرحلة التي يعيشها، بل ثمة عوامل عدة أسهمت في معاناة المراهق وصبوته.
التاسع : مع النماذج المعاصرة؟
إننا ومع ما نعيش الآن من أزمات المراهقين ومشكلاتهم، إلا أننا نرى نماذج تثبت خطأ هذه النظرة. فمن هم عمار المساجد؟ ومن حفاظ القرآن الكريم؟ ومن رواد مجالس العلم ودروس العلماء؟
لو تأملت في حفاظ القرآن الكريم لرأيت عامتهم في هذا السن، ولو أجريت جولة سريعة على مجالس العلم لرأيت أن معظم روادها من هؤلاء.
وفي عالم الجهاد لم ننسى جميعا كم هم الشباب المراهقون الذين دفنوا هناك في بلاد العجم في حين كان أقرانهم وأترابهم يسافرون إلى حيث الفساد والرذيلة.
لقد ذهبوا وهم يتمثلون بقول ابن رواحة –رضي الله عنه- :
إذا أديتني وحملت رحلي
فشأنك أنعم وخلاك ذم
وجاء المسلمون وخلفوني
هناك لا أبالي طلع بعل
مسيرة أربع بعد الحساء
ولا أرجع إلى أهل ورائي
بأرض الشام منجدل الثواء
ولا نخل أسافلها رواء
لقد كان المسلمون يظنون أن تلك القصص والروايات التي تروى عن البطولات وعن الشهادة قد أغلق عليها في كتاب لن يفتح أبدا، إنما سيبقى حبيساً في ذاكرة التاريخ.
العاشر: شواهد من علم النفس المعاصر:
حقيقة أخرى نختم بها هذا الحديث، فكثير من علماء النفس وعلماء التربية اليوم يشككون في صحة هذه الدعوى، ويرون أنها مبالغ فيها.
ومن علماء النفس المعاصرين الذين ناقشوا في مدى مصداقية مقولة أزمة المراهقة امرأة غربية اسمها (مارجرت ميد) فهي تعتبر المراهقة مرحلة نمو عادي، ومادام هذا النمو يسر في مجراه الطبيعي لا يتعرض المراهق لأزمات، وقد اهتمت هذه المرأة بدراسة المجتمعات البدائية، تقول: وفي هذه المجتمعات تختفي مرحلة المراهقة، وينتقل الفرد من الطفولة إلى الرشد بعد احتفال تقليدي.
ويقول الدكتور عبدالرحمن العيسوي: جدير بالذكر أن النمو في مرحلة المراهقة لايؤدي بالضرورة إلى أزمات، ولكن النظم الحديثة هي المسؤولة عن أزمة المراهقة.
ويقول الدكتور ماجد الكيلاني:"وقد أفرز فقدان ذلك مضاعفات سلبية في حياة الناشئة أهمها ما سماه فقهاء التربية الحديثة بالمراهقة، وهذه فتوى خاطئة أصدرها علماء النفس المحدثون تبريرا للسياسات الجائرة التي يمارسها مترفو العصر من أصحاب الرأسمالية والشركات الدولية، المراهقة ليست ظاهرة حتمية في تطور العمر الزمني للإنسان إنها مشكلة يمكن تجنبها كليا في حياة الفرد، وألا يمر بها الإنسان أبدا وهي من مزاعم علماء النفس في المجتمعات الصناعية الرأسمالية، ومرض من أمراضه الاجتماعية"
خلاصة الموقف من مشكلات المراهقة:
إنه لا اعتراض على أن هذه المرحلة مرحلة صعبة، بل هي من أصعب مراحل العمر، ولا على أن كثيراً من مشكلات الشباب وأزماتهم تقع في هذه المرحلة، إنما اعتراضنا ينصب في أمور:
الأول: إهمال الوجه الآخر؛ وهو أن المراهقة مرحلة التكليف الشرعي ودخول الشاب إلى عالم الرجال.
الثاني: إهمال البعد الديني وإقبال المراهق على التدين والعبادة.
الثالث: افتراض أن مشكلات المراهقة ملازمة لهذه المرحلة، وليست نتاج الواقع المعاصر والأخطاء التربوية التي تمارسها التربية المعاصرة.
الرابع: اعتقاد أن الشاب معذور فيما يأتيه من الصبوة والانحراف بحجة كونه مراهقاً.
إننا بحاجة إلى أن يعيد الآباء والمربون والمعلمون نظرتهم للمراهقين، وحينها سيعيدون تعاملهم معهم على أساس هذه النظرة، وبحاجة إلى أن يعيد أهل التوجيه في مجتمعات المسلمين من رجال التربية والتعليم النظر فيما يقدم للشباب والفتيات في مجتمعات المسلمين.
وسيواجهون صعوبات في تربيتهم والتعامل معهم، لكن هذا لا يعني أن الأمر مستحيل، ولا أن ما يقع فيه المراهق أمر طبعي لا ينبغي أن يؤاخذ عليه، وفرق بين سلوك أسلوب الحكمة في العلاج والتصحيح، وبين الإهمال والتماس العذر للخطأ.
مسؤولية المجتمعات المعاصرة عن مشكلات المراهقين:
إن مانعانيه اليوم من أزمات ومشكلات في عالم المراهقين، إنما هو نتاج التربية المعاصرة، ولقد تركت المجتمعات المعاصرة أثرها عليهم من خلال جوانب عدة، منها:
الأول: تلقي العلوم الإنسانية عن العالم الغربي تلقياً حرفيًّا، وسيطرة المعايير الغربية في الحكم على الانحراف والسواء، ولهذا صار الوالدان وصار أهل التربية يتعاملون مع الشاب ومع الفتاة في هذه المرحلة وهذا السن على أنهم معذورون لكونهم مراهقين، وصارت كثيراً من المظاهر التي تعد انحرافاً بالمعيار الشرعي مظاهر عادية عند هؤلاء.
الأمر الثاني: نظام التعليم المعاصر في المجتمعات يسهم في طول مرحلة المراهقة؛ وذلك أن الشاب يعيش في التعليم إلى أن يصل إلى سن الثانية والعشرين، يعيش أولا بعيدا عن الزواج وتحمل المسؤولية، ثم هو خلال هذه المرحلة يعتمد على أبويه اعتمادا تاما، بل حتى نظم التعليم يعيش فيها الطالب على التسول العلمي، فهو يتلقى المعلومة جاهزة من أستاذه الذي هو الآخر يلقيها كما جاءت في الكتاب، فلا يمارس الطالب جهده في اكتشاف المادة العلمية، لا يمارس جهدا ذاتياً في التعلم، وغاية ما يقوم به الاستماع الجيد وأن يحفظ ما في الكتاب، ثم يعبر عنه بعد ذلك في الامتحان، وهذا يولد شخصية ونفسية تعتمد على الغير.
الأمر الثالث: الإثارة والمغريات وحياة الترف المعاصر، وقد صارت الأجهزة الإعلامية تبالغ في إثارة الفتنة أمام المراهقين والمراهقات، فتصور غرف النوم تصويرا فاضحا، وتصور العملية الجنسية أمامهم بكل وقاحة، وحتى أصحاب السلع المادية لاتروج سلعهم إلا من خلال استخدام الإغراء والإثارة في الإعلان والدعاية؛ فأنتج ذلك جيلاً من المراهقين والمراهقات تأسره الغريزة ويلهث وراءها.
الأمر الرابع: غياب التوجيه والقدوة أمام الشباب والفتيات، فالنماذج التي تُبرز أمامهم هم أهل الفن والرياضة وأهل المجون والفساد.
هذه العوامل وغيرها لها أثرها البالغ في حياة المراهقين والمراهقات في هذا العصر الذي نعيشه، ولو أصلحنا تربيتنا لكان لهم شأنه آخر.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحمينا وإياكم من أسباب الفساد، وأن يصلح ذرياتنا، وأن يجنبنا وإياكم أسباب معصيته وسخطه إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب.